الأسرة و العدوان الداخلي




بقلم د.علاء فرغلي ( إستشاري الطب النفسي)

اثبتت الدراسات التى بحثت فى مدى العلاقة بين تصدع الأسرة وانحراف ابنائها فاتضح أن الصلة بين الأمرين وثيقة ، والتصدع الأسرى له أشكال كثيرة من أهمها :

التصدع السيكولوجي ...عن طريق ادمان المخدر ، والاضطراب الانفعالى للأداء ، والمناخ الأسرى المميز بالصراع الداخلى والعنف والعدوان، والتوتر المستمر وهو يشكل عاملاً مهما فى خلق الانحراف.
وتعانى بعض الأسر من مظاهر متعددة من الانحلال الخلقى الذى انتشر بدرجة خطيرة واصبح يهدد الاجتماع الأسرى بالانهيار.. وهذا التصدع يؤثر على العلاقات المتبادلة بين عناصر الأسرة ، وينمى فيهم روح الحقد والكراهية، والانفعالات الشاذة ، والاتجاهات غير السوية مما يؤدى إلى التفكك الأسرى ، وزيادة التوتر بين عناصره مما يؤدى إلى تدهور الحياة الزوجية التى تنتهى عادة بالهجر ثم الطلاق .. وإلى اضطرابات سلوكية فى الأطفال مثل عدم الاهتمام بنصائح الوالدين وعدم الرغبة فيهما بل وعدم الانصياع لأوامرهما والتمرد عليهما .


      وعندما تفشل الأسرة فى وظيفتها فى التعامل مع الواقع الخارجى تتحول طاقتها نحو الداخل بشكل يؤدى إلى تفتيتها . و لعل مظاهر ذلك العدوان تأخذ فى الأغلب الأشكال الآتية :

- عدوان بين الوزجين .

- عدوان بين الآباء و الأبناء .

- عدوان بين الأبناء مع بعضهم .

- عدوان جنسى .

1- العدوان بين الزوجين :

نظرا للاختلاف البدنى الطبيعى بين الرجل و المرأة فإن العدوان فى أغلب الحالات لهو عدوان من جانب واحد و هو الرجل وفي بعض الأحيان يكون من جانب المرأة وفي أحيان أخرى يكون العدوان بسبب كلاهما.

التقديرات تشير الى ان حوالى 50% من الزيجات فى الولايات المتحدة قد مرت بخبرة العنف الزوجى. و فى بعض الحالات تنتهى بالقتل. و رغم عدم وجود احصائية فيما يتعلق بالمجتمع المصرى و لكن فى الارجح هى تتعدى تلك النسبة.

و قد كان القانون و مازال الى حد ما يتجنب التدخل فى هذه العلاقة على اساس انه بمجرد وجود مثل هذا التدخل فإن الأمر يعنى ان العلاقة الزوجية قد انتهت كعلاقة حميمة تقوم على اساس اختيار حر راشد ومتبادل بين الطرفين. و لذلك فمازال الافضل ان تقع مثل هذه الحالات فى دائرة اختصاص  الطبيب النفسي  وطبيب العائلة.

و فى هذه الحالات فعليه ان يبدأ بادئ ذى بدء بوضع حد لتصعيد الحلقة المفرغة مستخدما علاقة الثقة و الاحترام التى تنشأ بينه و بين الأسرة . و كذلك بان يتيح للزوجين قناة تعبير بديلة تبدأ باشرافه . و تلك هى بواسطة التعبير باللفظ و الصوت بل و حتى بالبدن و لكن فى حدود لا تؤدى الى عنف .

و عليه بعد ذلك ان يتطرق الى الاسباب التى تؤدى الى حدوث العنف بادئا بالأسباب القريبة الى الاسباب المهيئة و البعيدة. و هى أسباب لا تقتصر على طرف واحد بل ترجع الى طبيعة العلاقة المرضية بينهما . ففى الأغلب لا يوجد طرف واحد مريض تماما و الآخر سليم تماما .

فمن الأسباب القريبة فى الزوج مثلا نجد انه ربما يتعرض للمهانة فى اطار عمله و لا يستطيع ان يرده فينقل عدوانيته نحو زوجته . أو قد يلجأ إلى العقاقير بغية الهرب من مشاعر العجز . فيعبر عن شعوره المؤقت بالقوة من خلال عدوانه على زوجته.

بينما قد نجد اسبابا فى الزوجة كأن تذكره هى بعجزه بأن تطلب منه ما لا يستطيع انجازه . أو قد تكون هى فى علاقتها مع اطفالها عاجزة و تشعر بالذنب بما يجعلها تستفز زوجها ختى تنال العقاب

أما الأسباب البعيدة فلعلها ترجع الى طفولة الزوجين و احتمال كونهما قد تعرضا  لتربية  من اسرتيهما يغلب عليها طابع العنف.

ومن المفيد إخضاع الزوجين لبرنامج علاج نفسي زواجي .

2- العدوان بين الآباء و الأبناء :

هنا ايضا نجد اختلافا بدنيا طبيعيا بين الابناء و الآباء يجعل العدوان فى الأغلب من جانب واحد و ان كانت هناك استثناءات و خاصة عندما ينمو الابناء .

هنا أيضا نجد أن العقاب البدنى كوسيلة تربوية ما زال الكثير من الآباء يؤمنون بها يختلط امره مع العنف المدمر . و لعل ذلك يرجع الى بقايا ما كانت بعض المجتمعات تأخذ به ( فى القانون الرومانى مثلا و فى الجاهلية العربية ) حول احقية الأب المطلقة فى ابدان اولاده لدرجة القتل . و لكن بالمقدار الذى تقاس فيه الحضارة بدرجة مراعاتها لضعفائها من اطفال و مسنين و عجزة فإن التقدم الحضارى ارتبط بالحد من هذا الحق للأب فى ابدان اولاده . و أصبح القانون يقع حائلا أمام الآباء . و كذلك الأمر يتعلق بالأطفال الصغار بعلاقتهم بأمهم .

و تشير الاحصائيات مرة أخرى الى انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال بشكل متزايد . و لكن الأخطر من ذلك ان الدراسات تؤكد أن نسبة لا بأس بها من الأطفال الذين تعرضوا للعنف يصابون باضطرابات جسمية و نفسية و كثير منهم مستديم و يعطل النمو الطبيعى للأطفال .

و هنا مرة أخرى نجد القانون يعجز عن حماية الطفل لا خوفا من تفتيت الأسرة فقط و لكن لأن الطفل لا يستطيع أن يشكو والديه . و لذلك فان القانون يبيح لاطراف ثالثة أن تتقدم بالشكوى .

و مع ذلك فمازالت اغلب الحالات التى تطفو الى السطح تأتى من غرف الاستقبال فى المستشفيات العامة أو من عيادة الطبيب الممارس العام ، فالطفل سهل الإصابة و سرعان ما يحتاج لرعاية طبية بمجرد تعرضه للعدوان . و لذلك فمن واجب الطبيب ان يعلم عن ابعاد الظاهرة و ما تؤدى إليه من اصابات يمكنه تشخيصها .

الا أن التشخيص و العلاج الطبى البدنى  لا يكفى بما انه لا يتطرق الى اسباب الظاهرة و علاجها الجذرى . و على الطبيب ان يكتسب ثقة الطفل و الابوين على السواء مما يجعله متمكنا من القيام بدور المرشد و الناصح و المعالج نفسيا و اجتماعيا .

و قد ينطبق مبدأ ميل العنف ان ينمى نفسه تصاعديا ، الامر الذى يستلزم وضع حد للحلقة المفرغة . و بعدها يستطيع ان يعلم الأباء كيف يستمعون الى شكوى اولادهم بصبر و تأني ، متحكمين فى إنفعالتهم وميلهم الطبيعى لاستعمال العنف كحل سريع آخذين فى الاعتبار تعود الطفل عليه بما يجعله دائم الاستفزاز لهما . بل اننا نجد أن بعض الأطفال أصبح يرى أن العنف هو الدليل على اهتمام والديه به مما يجعله يقوم أن يتعلم الآباء مبادئ التربية مفضلين القدوة على الثواب و الثواب على العقاب . و فى حالة العقاب فعليهما أن يؤكدا للطفل فى توها أن العقاب هو لفعل بعينه و ليس للطفل ذاته . فمن الممكن أن يتلقى العقاب لفعل ما و فى نفس الوقت يتلقى التأكيد من الوالدين بحبهما له . وعلى أن يكون أي شئ غير الضرب والعنف البدني ، مثلا يكون الحرمان من شئ يحبه لفترة معينه أو الحرمان من رحلة .......... الخ.

و مرة أخرى فسوف نجد الأسباب المرسبة و المهيئة فى جميع الأطراف ( بما فى ذلك الطفل نفسه ) الا أن المستهدف فى النصح و الارشاد فى الاغلب هما الوالدين حيث انهما الاقدر على استيعاب ذلك علاوة على كونهما اصحاب المصلحة الأكبر فى أن ينمو طفلهما نموا طبيعيا نفسيا و بدنيا .

و قد نجد أن الأسباب القريبة المريبة ظروف المعيشة و ضيق المسكن أو طبيعة العلاقات الاجتماعية للابوين او اضطراب علاقتهما الزوجية بما يجعلهما كارهين لاولادهما لكونهما الرباط الذى يفرض عليهما الاستمرار فى العلاجة الزوجية .

و الأسباب البعيدة قد ترجع لكون الوالدين قد تعرضا لتربية كان النمط الغالب فيها هو العنف . و قد يكون ذلك العنف على شكل سلوك اسرى او على شكل عدم وجود تربية تعاون الطفل ( الأب أو الأم ) فى التحكم فى نزاعاته العدوانية .

وقد تحتاج هذه الأسرة الي جلسات علاج نفسي أسري يحضرها كل أعضاء الأسرة .


3- العدوان بين الأبناء :

سواء كانوا أطفال أو مراهقين ومن أهم أسباب هذا العدوان :

الغيرة بين الأبناء – تفضيل أحد الأبناء عن الآخرين عند الوالدين – المنافسة بعنف بينهم على أي شئ – إنحراف أحد الأبناء سلوكيا – دخول أحد الأبناء في الإدمان........ الخ.

4- العدوان الجنسى :

الطبيعى فى الأسرة انها الاطار الأمثل للتعبير عن الاقتراب الجنسى بين الزوج و الزوجة و لكنها مطالبة فى ذات الوقت بحماية الاطفال من اثارة المشاعر الجنسية حتى يكتمل نموهم مما يجعلهم آهلين لانشاء اسر جديدة خاصة بهم و مستقلة عن أسرة الأصل . بل المطلوب أن تنشأ هذه الأسر بواسطة الزواج من خارج الأسرة الأمر الذى يرجح الذرية السليمة من حيث تقليل فرص وراثة الأجنة الضعيفة كما يحدث فى زواج الأقارب . و هناك سبب أهم لذلك الواجب من قبل الأسرة فى تحريم الجنس على الاولاد و هو منع الصراعات و الانشقاقات داخل الأسرة بفعل المنافسة على الموضوع الجنسى . بل تأكيد رابطة التعاون بين جميع أفراد الأسرة .

الا أن هذا المنع للاثارة الجنسية داخل الأسرة ( باستثناء الزوجين ) الذى اخذت به جميع الحضارات الانسانية . انما هو يتكرر تأكيده و تعليمه باستمرار لان هناك احتمال لحدوثه . و الاحتمال يقوم على افتراض وجود جاذبية طبيعية بين الاجساد ذات الجنس المختلف ( ذكر و انثى ) . فالعلاقات الجنسية المحرمة هذه لها جذور فطرية و التحريم انما هو عمل تربوى حضارى .

و لذلك فمن اعراض التفكك الأسرى ( و من اسبابه ايضا ) و التفكك الحضارى هو ذلك الانهيار لحاجز التحريم . و هو يتصف بالعدوان لانه فى الاغلب يمارس من قبل طرف اضعف و محدود الخيار . و ينطبق ذلك بالتحديد على الآباء تجه بناتهم و الابناء تجاه اخواتهم . و ان كان يمكن أن ينطبق ذلك بأشكال أخرى أقل انتشارا .

و مثل هذه العلاقات علاوة على كونها تعبير عن تفكك الاسرة تؤدى فى حد ذاتها الى ذلك التفكك ناهيك عن الضرر النفسى الشديد على الاطفال الذين يتعوق نموهم الجنسى و النفسى بما يجعلهم يعجزون عن تكوين علاقات سليمة تؤدى الى انشاء اسرة جديدة .

و هنا ايضا نجد القانون يخجل من التدخل.. الأمر الذى يضع المسئولية على كاهل الطبيب. و قد يجد أنه من الضرورى أن يفصل بين الآباء و الابناء اما ينقل احد الأطراف الى مكان آخر او بالفصل داخل المنزل نفسه.

ولذلك يجب علي الأباء تعليم ابنائهم وترشيدهم على الثقافة الجنسية حتى يتحصنوا ولا يقعوا في العلاقات الجنسية المحرمة سواء داخل الأسرة أو حتى خارجها .

و ختاما فان هذه المجالات الأربعة التى يمارس فيها العنف من قبل طرف أقوى على طرف أضعف و فى اطار علاقة اسرية يكون الأصل فيها هو المحبة لهى تمثل مشاكل انسانية دقيقة يعجز القانون عن مواجهتها وحده و تحتاج من الطب سعة افق و دراية بالعلوم الانسانية تفوق ما هو متاح حاليا فى تعليم الطبيب . الا أنها مشاكل لا يمكن تجاهلها أو تركها للحلول العشوائية بل تحتاج الى برامج علاجات نفسية مختلفة مثل العلاج النفسي الأسري والزواجي والمعرفي السلوكي والعلاج الجماعي وربما العلاج النفسي التحليلي في بعض الحالات  .

وكذلك يقع على كاهل الطبيب والأخصائي النفسي نشر التوعية والثقافة النفسية خاصة بين الأسر والمجموعات الهشة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مبدأ الــ" ين " والــ " يانغ": طاقة الذكر والأنثى في الإنسان والأكوان

نماذج من فنون الكتابة الصحفية

هذا ما سوف يتذكّرهُ الناسُ عنك… فانتبه!